روائع مختارة | روضة الدعاة | زاد الدعاة | الكتاتيب.. في الحضارة الإسلامية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > روضة الدعاة > زاد الدعاة > الكتاتيب.. في الحضارة الإسلامية


  الكتاتيب.. في الحضارة الإسلامية
     عدد مرات المشاهدة: 4304        عدد مرات الإرسال: 0

يُعَدُّ الكُتَّاب من أقدم المراكز التعليمية عند المسلمين، وقيل بأن العرب عَرَفُوه قبل الإسلام، ولكن على نطاق محدود جدًّا.

وكانت مكانة الكُتَّاب في القرون الهجرية الأولى عالية الشأن؛ إذ يُعِدُّ لبداية تعليم أعلى، "فكان الكُتَّاب يشبه المدرسة الابتدائية في عصرنا الحاضر، وكان من الكثرة بحيث عدَّ ابن حوقل[1] ثلاثمائة كُتَّاب في مدينة واحدة من مدن صقلية"[2].

 الهدف من إنشاء الكتاتيب:

وكان الهدف من إنشاء الكتاتيب قد تمثّل في تعليم أطفال المسلمين القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم.

وقد اهتم النبيبتعليم الأطفال والشباب، إذ أمرأسرى المشركين عقب بَدْر، أن يُعلِّم كل واحد منهم "عشرةً من الغلمان الكتابة، ويخلِّي سبيله، فيومئذٍ تعلّم الكتابةَ زيدُ بن ثابتٍ في جماعةٍ من غلمة الأنصار"[3].

 وكان الأطفال في الكتاتيب يُعلَّمون احترام اللغة العربية، خاصةً إذا كتبوا في ألواحهم آيات من القرآن الكريم، أو أحاديث النبي؛ فقد قيل لأنس بن مالك الصحابي الجليل t (ت 93هـ): "كيف كان المؤدبون على عهد الأئمة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضى الله عنهم؟

قال أنس: كان المؤدب له أجانة[4]، وكل صبي يأتي كل يوم بنوبته (بترتيبه) ماء طاهرًا، فيصبُّونه فيها، فيمحون به ألواحهم. قال أنس: ثم يحفرون حُفرة في الأرض، فيصبون ذلك الماء فيها فينشف.

قلت: أفترى أن يلعط[5]؟ قال: لا بأس به، ولا يُمسح بالرجل، ويُمسحُ بالمنديل وما أشبهه. قلت: فما ترى فيما يكتب الصبيان في الكتاب من المسائل؟ قال: أما ما كان من ذكر الله فلا يمحوه برجله، ولا بأس أن يمحو غير ذلك مما ليس في القرآن"[6].

 فهذه الصورة الرائعة تعبر أصدق تعبير عما كان في نفوس أبناء ذلك العصر من احترام للحرف العربي عندما يكتب به الوحي الإلهي، فيختارون الماء الطاهر لمسحه، ويحفرون له في الأرض ويصبونه لينشف[7].

 أشهر المعلمين في الكتاتيب:

وقد اشتهر عدد من المعلِّمين في الكتاتيب وذاع صيتهم، فكان الحجاج بن يوسف الثقفي[8] مُعَلِّمًا بأحد الكتاتيب؛ يُعَلِّم الصبيان ويأجرونه خبزًا[9]، وعُرِفَ عن الضحاك بن مزاحم أنه كان مُؤَدِّبًا للصبيان في أحد كتاتيب الكوفة.

وكان لديه ثلاثة آلاف صبي[10]! ويَرْوِي ياقوت الحموي[11] في (معجم الأدباء) أن كُتَّاب أبي القاسم البلخي كان به ثلاثة آلاف تلميذ، وكان فسيحًا جدًّا يَتَّسِعُ لهذا العدد؛ لذا احتاج البلخي أن يركب حمارًا ليتردَّدَ بين هؤلاء وأولئك، ويُشْرِفَ على جميع تلاميذه[12].

 وقد تعلم كثير من كبار الفقهاء والعلماء في الكتاتيب في صغرهم، فيحكي الإمام الشافعي عن مرحلة الكُتَّاب في صغره فيقول: "كنت يتيمًا في حجر أُمِّي، فدفعتني في الكُتَّاب، فلمَّا خَتَمْتُ القرآن دخلتُ المسجد فكنتُ أُجَالِس العلماء"[13].

 وظهرت الكتاتيب في الشام بعد الفتح مباشرة، وتعلم فيها أبناء الفاتحين، يقول أدهم بن محرز الباهلي الحمصي[14]: "أنا أول مولود ولد بحمص (يعني من المسلمين)، وأول مولود رُئِي في كتف (يعني يحمل كتفًا مكتوبًا فيه القرآن).

وأنا أختلف إلى الكُتَّاب أتعلم الكتاب (يعني القرآن)"[15]. وممن تعلم في كتاتيب الشام وهو صبي إياس بن معاوية المزني قاضي البصرة الشهير[16].

وقد كان الآباء يحرصون على أن يذهب أبناؤهم إلى المعلمين المجيدين، الذين لهم باع ودُربة على تعليم الأطفال، فكان من جملة هؤلاء، المسلم بن الحسين بن الحسن أبو الغنائم، (ت 544 هـ) الذي قال عنه ابن عساكر: "اشتغل بتأديب الصبيان، فحسن أثره في ذلك، وظهر له اسم في إجادة التعليم والحذق بالحساب حتى كثر زبونه"[17].

وقد كان الأمراء والخلفاء يحترمون المعلمين والمؤدبين، وينزلون على آرائهم؛ احترامًا لهم، ولذلك كان المعلمون يتمتعون بالاحترام الوافي من قبل الناس جميعًا، فقد بعث هارون الرشيد إلى مالك بن أنس –رحمه الله- يستحضره؛ "ليسمع منه ابناه الأمين والمأمون، فأبى عليه.

وقال: إن العلم يُؤتى، لا يأتي. فبعث إليه ثانيًا، فقال: أبعثهُما إليك يسمعان مع أصحابك. فقال مالك: بشريطة أنهما لا يتخطيان رقاب الناس، ويجلسان حيث ينتهي بهما المجلس. فحضراه بهذا الشرط"[18].

وقد شاركت المرأة في نشر التعليم في الكتاتيب منذ وقت مبكر، قال التابعي عبد ربه ابن سليمان: كتبت لي أم الدرداء في لوحي فيما تعلمني: "تعلموا الحكمة صغارًا تعملوا بها كبارًا"، وقالت: "إن لكل حاصد ما زرع من خير أو شر"[19].

ولم تكن مُقَرَّرَات وموادُّ التعليم واحدة في العالم الإسلامي، بل اختلفت من قُطْرٍ لآخر، وإن كانت تشتمل على القرآن الكريم، والقراءة والكتابة، وأحاديث الأخبار[20]، وبعض الأحكام الدينية، والشعر، وبعض مبادئ الحساب.

وبعض قواعد اللغة العربية، وكانت مدَّة بقاء الطفل في الكُتَّاب خمسة أو ستة أعوام على الأكثر، وتكون في الغالب ابتداءً من السَّنَةِ الخامسة أو السادسة، ويحفظ الطفل خلال هذه الفترة القرآن كله أو بعضه، وعندما يُتِمُّ الطفل مدَّة الدراسة في الكُتَّاب، ويحفظ القرآن؛ يمتحنه المعلِّمُ ليتأكَّد منه، فإذا اجتاز الامتحان احتفل بالختمة[21].

ولأهمية تعليم الأطفال وتأديبهم، اهتم كثير من فقهاء ومؤلفي الإسلام بتربية الأطفال، وإرساء القواعد التربوية المهمَّة التي تُعين المدرسين والآباء على تعليم أبنائهم، فهذا الإمام الحجة أبو حامد الغزالي[22] يضع فصلًا في كتابه القيم "إحياء علوم الدين" بعنوان "بيان الطريق في رياضة الصبيان في أول نشوئهم ووجه تأديبهم وتحسين أخلاقهم".

ومما جاء فيه: "اعلم أن الطريق في رياضة الصبيان من أهم الأمور وأوكدها.

والصبيان أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يُمال به إليه، فإن عُوِّد الخير وعُلِّمْهُ نشأ عليه.

وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبوه وكل معلم له ومؤدب، وإن عُوِّد الشر، وأهمل إهمال البهائم، شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القَيِّم عليه والوالي له"[23].

ونتيجة لمهارة بعض هؤلاء المعلمين والمؤدبين؛ فقد ترقّى بعضهم في وظائف الدولة حتى صار وزيرًا، مثل إسماعيل بن عبد الحميد الذي كان يعلِّم الصبيان، ثم تقلبت به الأحوال إلى أن صار وزيرًا لمروان بن محمد[24]، وكذلك الحجاج بن يوسف الثقفي الذي صار كبيرًا لوزراء عبد الملك بن مروان.

وكان كثير من هؤلاء المعلمين يأخذون أجرة نظير تعليمهم للصبيان، ولكن الأعجب من ذلك، أننا وجدنا الشيخ أبا عبد الله التاودي (ت 580هـ)، وهو من أهل مدينة فاس بالمغرب، أنه "كان يعلِّم الصبيان، فيأخذ الأجر من أولاد الأغنياء، فيردُّه على أولاد الفقراء!" [25].

وكانت أوقات الدراسة في الكتاتيب تحدد بعلامات طبيعية, فشروق الشمس كان بدء اليوم الدراسي, يطول ويقصر تبعًا لشروق الشمس، وأذان العصر"[26].

وقد كان الأطفال يتعلمون في المساجد، إلا أن ذلك لم يكن بصورة منتظمة، فحينما كثر الهرج في المساجد؛ بسبب الأطفال عام 483هـ، فقد "استُفْتِي على معلمي الصبيان أن يُمنعوا من المساجد صيانةً لها، فأفتوا بمنعهم..." [27].

وأما بالنسبة للراحة والعطلات المدرسية، فقد لوحظ اهتمام المسلمين بإعطاء الصبي قسطًا من الراحة بعد عناء الدراسة، فهذا ابن الحاج العبدري - وهو من علماء المالكية بفاس في بلاد المغرب (ت 737هـ) - يقول: "إن ذلك مستحب لقوله: "رَوِّحُوا الْقُلُوبَ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ"[28]. فإذا استراحوا يومين في الجمعة[29] نشطوا لباقيها"[30].

وهناك تعطيل في أيام الأعياد، وحالات المرض، والرياح والعواصف والبرد والمطر الشديد.

وأما المعلم فإذا تغيّب لشغل طارئ "فعليه أن يستأجر للصبيان من يكون فيهم بمثل كفايته إذا لم تطل مدة ذلك... كذلك إن هو سافر فأقام من يوفيهم كفايته لهم، إن كان سفرًا لا بد منه، قريبًا اليوم واليومين وما أشبههما، فيستخف ذلك إن شاء الله، وأما إن بَعُد أو خيف بعد القريب لما يعرض في الأسفار من الحوادث، فلا يصلح له ذلك"[31].

--------------------------------------------------------------------------------

[1] ابن حوقل: هو أبو القاسم محمد بن حوقل (ت 350هـ) رحّالة وجغرافي ومؤرخ، أشهر مؤلفاته هو التعليق والتنقيح لكتاب المسالك والممالك للإصطخري، وتعليقه بنفس الاسم. انظر: الزركلي: الأعلام 6 111.

[2] مصطفى السباعي: من روائع حضارتنا ص100.

[3] السهيلي: الروض الأنف 3 135.

[4] إناء من فخار يُوضع فيه الماء.

[5] يلعط أي يلحس، ولعل المراد هنا انطباع الأحبار على الأيدي أو الأرجل.

[6] ابن سحنون: آداب المعلمين ص40، 41.

[7] انظر: أكرم العمري: عصر الخلافة الراشدة ص281.

[8] الحجاج بن يوسف الثقفي: هو أبو محمد الحجاج بن يوسف بن الحكم الثقفي (40- 95هـ 660- 714م)، قائد، داهية، خطيب. ولاه عبد الملك مكة والمدينة والطائف ثم العراق. ولد ونشأ في الطائف، وتوفي بواسط (بين الكوفة والبصرة). انظر: الصفدي: الوافي بالوفيات 11 236-241، والزركلي: الأعلام 2 168.

[9] ابن خلكان: وفيات الأعيان 2 30.

[10] الذهبي: العبر 1 94.

[11] ياقوت الحموي: هو أبو عبد الله شهاب الدين ياقوت بن عبد الله الرومي (574- 626هـ 1178- 1229م) مؤرخ ثقة، من أئمة الجغرافيين. من أشهر مصنفاته: (معجم البلدان)، و(إرشاد الأريب). انظر: ابن خلكان: وفيات الأعيان 6 128.

[12] ياقوت الحموي: معجم الأدباء 1 491.

[13] ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله 1 473.

[14] أدهم بن محرز: هو أدهم بن محرز بن أسيد الباهلي (نحو 100هـ 718م) تابعي فارس، وقائد عسكري كبير، وشاعر من أهل حمص. كان فارس أهل الشام ورجلهم في أيامه. انظر: الزركلي: الأعلام 1 282.

[15] ابن بدران: تهذيب تاريخ دمشق الكبير لابن عساكر 2 367.

[16] المصدر السابق 3 180.

[17] ابن عساكر: تاريخ مدينة دمشق 58 74.

[18] المصدر السابق 8 269.

[19] السابق نفسه 70 158.

[20] أي الأخبار التاريخية والقصص.

[21] انظر: رحيم كاظم محمد الهاشمي، وعواطف محمد العربي: الحضارة العربية الإسلامية ص147-149.

[22] الغزالي: هو أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي (450- 505هـ 1058- 1111م) الملقب حُجَّة الإسلام، الفقيه الشافعي، الفيلسوف المتصوف. مولده ووفاته في الطابران بخراسان. انظر: ابن خلكان: وفيات الأعيان 4 216-218، والسبكي: طبقات الشافعية 6 191-211.

[23] الغزالي: إحياء علوم الدين 3 72.

[24] ابن كثير: البداية والنهاية 10 60.

[25] أبو العباس الناصري: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى 2 210.

[26] حسن عبد العال: التربية الإسلامية في القرن الرابع الهجري ص185.

[27] ابن كثير: البداية والنهاية 12 168.

[28] مسند الشهاب القضاعي (629)، والأصبهاني: حلية الأولياء 3 104، ويشهد له حديث: "يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً". مسلم: كتاب التوبة، باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة... (2750).

[29] يقصد في الأسبوع.

[30] ابن الحاج العبدري: المدخل 2 321.

[31] حسن حسني عبد الوهاب: مقدمة كتاب آداب المعلمين ص57، وعلي بن نايف الشحود: الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل ص38.

الكاتب: د. راغب السرجاني

 المصدر: موقع قصة الإسلام